معرفة

كيف رأى المسلمون أنفسهم؟ عن كتب التراجم والطبقات

من ابن سعد إلى ابن حجر... رحلة كتب التراجم والطبقات في توثيق تاريخ صدر الإسلام.

future من اليمين: أغلفة كتب «الطبقات الكبير»، «الطبقات»، و«سير أعلام النبلاء»

في بدايات التدوين التاريخي عند المسلمين، كان الشيوخ وطلبة العلم الديني هم الوقود الذي أدى إلى ازدهار تلك الحركة العلمية. فالتدوين الذي لجأ إليه المسلمون من أجل الحفاظ على السنة النبوية انعكس على المجالات الأخرى، وفي مقدمتها الكتابة التاريخية، التي بدأت في البداية لمعرفة الرواة والحكم عليهم – ككتابات خليفة بن خياط و«التاريخ الكبير» للبخاري على سبيل المثال – وسرعان ما تحولت إلى كتابة تاريخية وتتبع للأخبار.

ومن رحم هذا الزخم العلمي، وُلدت فكرة الترجمة على أساس الطبقات وتواريخ الوفيات، وفيما بعد ترتيب المُترجَم لهم على أساس الأنساب، ثم الحروف الأبجدية. وبالنسبة لفكرة الطبقات، فالطبقة في أبسط تعريف لها هي طائفة من الناس تعاصروا على المستوى الزمني أو على مستوى الأسانيد بالنسبة لرواة الأحاديث. ومن هنا جاءت فكرة الترجمة على أساس الطبقة؛ فالعشرة المبشّرون بالجنة ومن في حكمهم طبقة، والتابعون طبقة، وهكذا. ويمكن قياسها زمنياً كذلك.

وفيما يلي عرض لأبرز كتب التراجم والطبقات المتعلقة بفترة تاريخ صدر الإسلام، سواء العام منها أو المتعلق بتاريخ الصحابة.

١ ـ ابن سعد... وأقدم ما وصلنا من كتب الطبقات

محمد بن سعد بن منيع، المعروف بكاتب الواقدي (لملازمته أستاذه الواقدي)، وُلد في البصرة سنة (١٦٨هـ)، وتوفي في بغداد سنة (٢٣٠هـ). ارتحل في طلب العلم إلى المدينة والكوفة وبغداد، وأخذ عن رواة وشيوخ عصره، وكان أكثرهم تأثيرًا فيه محمد بن عمر الواقدي.

ولابن سعد في التاريخ ثلاث مؤلفات تقريبًا، وصلنا منها «الطبقات الكبير» و«الطبقات الصغير» و«التاريخ». ولم يصلنا «التاريخ»، بينما حُقّق ونُشر «الطبقات الصغير» على نسخة وحيدة.

يُعد كتاب «الطبقات الكبير» من أقدم ما وصلنا من كتب الطبقات. وبخلاف الظن الشائع، لا يُعد هذا الكتاب تكرارًا لما دونه الواقدي – أستاذ ابن سعد – فابن سعد قد نوّع مصادره، وكانت مادته غزيرة، حتى إنه قد تفوّق على أستاذه. يقدم لنا ابن سعد معلومات بالغة الأهمية عن السيرة النبوية، وقد جمع الكتاب الكثير من المصادر التي فُقد أغلبها اليوم.

قسّم ابن سعد كتابه على أساس الطبقات، فاستهلّه بالسيرة النبوية، ثم الترجمة لأهل بدر وأصحاب السابقة كحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب. وبوجه عام، فالكتاب مصدر هام لفترة صدر الإسلام، سواء من حيث شموله أو أقدميته.

وفيما يتعلق بطبعات الكتاب، فلم يكن بمعزل عن النشرات التجارية أو النشرات التي تستهدف خدمة بعض الأغراض المذهبية، إلا أن أفضل طبعاته هي التي قام على تحقيقها الدكتور علي محمد عمر.

أما عن الدراسات التي اهتمت بهذا الكتاب، فهناك دراسة للدكتور محمد بن صالح السامرائي بعنوان «ابن سعد: منهجه وموارده في كتابه الطبقات الكبرى»، نُشرت في الأردن عام ٢٠٠٩م.

٢ ـ خليفة بن خياط والأنساب كمفتاح لفهم تاريخ صدر الإسلام

سبق التعريف بشخصية خليفة بن خياط (توفي ٢٤٠هـ) في المقال السابق، عند الحديث عن كتابه «تاريخ خليفة». لكن في الطبقات، اختلف عرض خليفة للمعلومات؛ فقد كتبها على أساس التراجم، وفقًا لنظام الطبقات.

بالإضافة إلى كونه من المصادر المبكرة، فإن كون خليفة محدثًا أضفى على كتابه قيمة خاصة، بما يتعلق بالأنساب ومعرفة القبائل في فترة صدر الإسلام. فيُشكل كتابه ركيزة مهمة لدراسة تاريخ تلك الفترة.

ومن ناحية أخرى، قد يرى البعض أن الفائدة من كتاب «طبقات خليفة» قاصرة على المختصين، بسبب شُحّ المعلومات – كما يُظن – إلا أن حتى القارئ العادي لن يعدم فائدة من هذا الكتاب؛ ففي أحيان كثيرة، يكون الإلمام بالأنساب والعلاقات بين القبائل ضروريًا لفهم بعض الأحداث.

ونُشر الكتاب مرتين، إحداهما بتحقيق الدكتور سهيل زكار، لكن أفضل طبعاته هي الطبعة التي حققها الدكتور أكرم ضياء العمري الذي حقق كذلك «تاريخ خليفة بن خياط»، وصدرت تلك الطبعة عن جامعة بغداد.

٣ ـ الحافظ الذهبي... عندما يقرأ المحدث التاريخ

شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، شامي النشأة والإقامة، كان سليلاً لأسرة علمية، وتتلمذ على علماء عصره وفقًا للتكوين العلمي المعتاد في تلك الفترة. أبدى اهتمامًا خاصًا بعلمي الحديث والتاريخ، ويبدو هذا مفهوماً في ظل الاتصال بين العلمين آنذاك؛ إذ كانت النظرة الغالبة للتاريخ أنه وسيلة لخدمة علم الحديث.

قد يبدو من الغريب الحديث عن الذهبي(توفي ٧٤٨هـ) وكتابه «سير أعلام النبلاء»  كمصدر لفترة صدر الإسلام، وهو من المتأخرين، إلا أن المادة الضخمة التي احتواها الكتاب، وشمول التراجم، وتنوع المصادر، جعلت من الكتاب مرجعًا هامًا عند الحديث عن شخصيات تلك الفترة.

يغطي الكتاب فترة واسعة، تصل حتى شيوخ الذهبي نفسه في القرن الثامن الهجري، ورتبه الذهبي على أساس الطبقات. بدأ بالخلفاء الأربعة وباقي العشرة المبشرين بالجنة، وذلك بعد أن تناول السيرة النبوية بطبيعة الحال.

وجدير بالذكر أن للذهبي كتابًا آخر ضخمًا على النمط الحولي، هو «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعيان»، وقد رتّب فيه التراجم على طريقة الطبقات أيضًا، وتغطي فترة الإسلام أربع مجلدات من هذا الكتاب، وفقًا لطبعة «دار الرسالة» وهي أفضل طبعاته.

٤ ـ ابن عبد البر والتأريخ النقدي لعصر الصحابة

جمال الدين يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، وُلد في قرطبة سنة (٣٦٨هـ)، وتوفي سنة (٤٦٣هـ). تنقل بين مدن الأندلس، حتى استقر في شاطبة، وبها تُوفي. تتلمذ على كبار مشايخ عصره، مثل أبي عمر الباجي، وتتلمذ على يديه كثيرون، أشهرهم ابن حزم.

أما كتابه «الاستيعاب في معرفة الأصحاب»، فهو مخصص للحديث عن صحابة النبي ﷺ. يبدأ المؤلف بعد المقدمة بحديث موجز عن السيرة النبوية، ثم يشرع في الترجمة للصحابة.

يختلف الاستيعاب عن غيره في كونه من المؤلفات القليلة التي تناولت الصحابة بأسلوب تاريخي، لا حديثي. فالكتب السابقة، كـ «معرفة الصحابة» لأبي نعيم و«معجم الصحابة» لابن قانع، اهتمت غالبًا بالرواية، بينما توسّع ابن عبد البر في تتبع أخبار الصحابة.

في هذا الكتاب، تجد معالجة تاريخية للصحابة، دون تصوير ملائكي أو أسلوب وعظي. بل تجد تاريخًا بشريًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مع حس نقدي ظاهر منذ المقدمة، ويتضح في التراجم المتعلقة بالصحابة المؤثرين في أحداث الفتنة الكبرى.

أما أفضل طبعات الكتاب، فهي التي أصدرتها «دار هجر» بتحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي. وعن الدراسات حول المؤلف والكتاب، فلدينا:

١ ـ ابن عبد البر الأندلسي وجهوده في التاريخ، ليث سعود جاسم، مصر 1988م، وهي في الأصل رسالة علمية.
٢ ـ جهود الحافظ ابن عبد البر في دراسة الصحابة، مجيد خلف مسعد، دار ابن حزم – بيروت.

٥ ـ الحافظ ابن حجر وعمله الموسوعي عن تاريخ الصحابة

دخل الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢هـ) التاريخ العلمي بكتابه الأشهر فتح الباري شرح صحيح البخاري. لكنه ترك لنا أيضًا عملًا ضخمًا لا يقل أهمية، هو «الإصابة في تمييز الصحابة».

«الإصابة» كتاب موسوعي، جمع فيه ابن حجر ما تفرق في الكتب السابقة، وأضاف إليه نقدًا وتحقيقًا. رغم أن غالب التراجم قصيرة، إلا أن بعض تراجمه لكبار الصحابة كانت مطوّلة ومليئة بالمعلومات، خاصة المتعلقة بفترة صدر الإسلام.

تكمن أهمية «الإصابة» في مقدمته كذلك، إذ ناقش فيها شروط الصحبة وأقوال العلماء في تعريف الصحابي.

أبرز طبعات الكتاب هي طبعة «مركز هجر» بتحقيق الدكتور «عبد الله بن عبد المحسن التركي»، وتتميّز بدقة التحقيق وكثرة الفهارس. أما الدراسات حول المؤلف والكتاب، فمن أبرزها:

١ ـ ابن حجر العسقلاني مؤرخًا، محمد كمال عز الدين، دار عالم الكتاب – بيروت.
٢ ـ ابن حجر العسقلاني: مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتاب الإصابة، شاكر محمود عبد المنعم، دراسة ضخمة في جزئين، مؤسسة الرسالة.

# تراجم # سير # كتب # تاريخ

ثورة ترامب
ظلال أمريكية على ثورة يوليو
نجيب محفوظ بين ثورة 1919 وثورة يوليو

معرفة